تحت ظلال النخيل يجلس كهل بعمامتة البيضاء والتى تغير لونها بفعل الزمن .. وتقاسيم وجهه ترسم على جبينه علامات شقاء السنين وتتعلق عيناه فى كنزه الذى بين يديه وهو حباتُُ من رمال بلاده مازال محتفظاً به منذ أن ترك منزله وساقيته وزرعه .. وتساقطت دمعات على خديه فما أصعب بكاء الرجال ولكن ذكرى الرحيل وما قبلها بأيام طوال كانت كوابيس الليل أشد ضراوة تهاجمه أثناء ليله وتفزعه أثناء نهاره .. ولذلك كان طوال ساعات اليوم يمسح بيديه على الحوائط ويجول هائماً فى منزله الفسيح من المضيفة لغرفة النوم لغرفة الأولاد لإستراحة الضيوف ثم تحول إلى المطبخ حيث تتوهج فى ركن منه نار الحطب وهى تطقطق لهيبها معلنةً نضوج السخين ثم يكمل جولته إلى حوش البهائم والطيور ويستقر بينهم يحادثهم عن خلجات مشاعره وعن إحساسه العميق الذى يفرق بين الوهم واليقين إنه وأهله ذاهبون للجحيم .. ساعات طوال يتحدث إليهم لعلهما يسمعاه ويأتى منهم الجواب .. ووقف منتصباً وتحركت قدماه إلى حماره حيث إنزوى هو الآخر فى ركن بعيد وكأن كل الكائنات فى هذه الأرض كانت تشعر بأن هناك مأساة سيغرق فيها الجميع وأخذ يمسح بيديه على وجه حماره ولِمَ لا ؟ أليس هو الصديق .. وكأن كلبه سمع ما بخاطره فأتى مسرعاً وهو يلعق بحذائه .. إرتسمت إبتسامة بين شفتيه لا يدرى من أين أتت .. فكلبه يريد أن يقول له : أنا أيضاً صديقك الوفى وأنا أول من يستيقظ فى المنزل وأنا الذى أحرسه وأنبح لك قبل طلوع الفجر لتستعد لسقى أو حَش الزرع وهنا يُؤذن الديك ليعلن وجوده وصوت آخر مــاااااء ضمن الأصدقاء والعصافير والتى كانت زقزقتها كالتغريد فى الصباح الباكر صارت أصواتها كنعيق البوم و تعلن فى كل بيت لا لاتتركوا بلادكم وأرضكم تشبثوا بها فلن تجدوا هناك النيل ولا الخضرة ولا الزرع .. ستجدوا الأمراض والموت يحيط بيكم من كل جانب .. وفى بصيص نور النهار يلمح ثعباناً متجة إليه إقترب منه ثم إبتعد قائلاً : لا لن أتركك تموت هنا يا نوبى فالأرض والمقابر ستغمرها المياة وسيحتاجون لك أهلك فكلهم هائمون تائهون متخوفون من المجهول وسيف الترحيل مسلط فوق رؤوسهم ولكن فى النهاية أتمنى أن تجد هناك فى أرض الجحيم مقبرةً آمنة لك ولأهلك .